تقديم لكتاب »أدراج الرياح »ـ

 

بقلم السفير محمد  جنيفان

صحبت الأخ الكريم والزميل الفاضل، سي المولدي الساكري ، في ما خطه يراعه ،عن هذه الرحلة المديدة من عمره الزكي، فشدني سرده لها شدا ،ولم استطع،منذ بدأت الخطوات الأولى فيها ، الفكاك من قراءتها ،الى النهاية ،وأحسب أن ذلك كان بما أستطاع أن يبثه في سرده لها ، من نبض أحاسيس ،و جياش انفعالات، وبما عرضه ،بصدق وعمق، من تطورات متعددة الأبعاد، امتدت ،منطلقة من عفوية الطفل الغرير،بمنطقة « الجباس  » الذي حسب الثعبان حبلا، إلى حنكة الرجل المتأمل الذي يقف،في نهاية شتاء قاس، بالكندا ، ملتفتا إلى عمر مضى،في خدمة الوطن،دبلوماسيا ، فيحسبه قد راح ادراج الرياح….
وقد فكرت ،مليا، في الكيفية التي أقدم بها للقراء هذا الكتاب،بالإيجاز الضروري،فلم أستطع ذلك بيسر .فالكتاب ،في الواقع ،كتب ثلاثة،وشخصية صاحبه حاضرة في كل ثناياه ،ولكني لم أستطع أن اتخلص من انطباع تحول ،عندي ،إلى شبه يقين، بان ،سي المولدي، قد أفلح، إلى حد بعيد، في جعل كتابه الأول صنوا لكتاب « الأيام » الذي أشتهر به طه حسين،رغم أن صاحب « الأيام » تحدث عن طفولته بضمير الغيبة، وصاحب « الأدراج « استعمل ضمير المتكلم .
وهذا الكتاب الأول ممتع ومفيد،لماحواه من صورولوحات منتقاة من نمط معيشة لعائلة ريفية ،نشأت في مناخ طبيعي شديد القسوة ،ولكنها بصبرها وجلدها ونبل قيمها العائلية والقبلية والروحية، تحيا فيه متعففة ومعتزة، وتحفر ،في صخره الصلد، سبيلها نحو المصعد الاجتماعي والاقتصاد ي ، في منتصف القرن العشرين ،تحت راية الدولة التونسية حديثة الانعتاق ،من الاستعمار الفرنسي.
وهذا الكتاب الطريف والعميق يبدِأه سي المولدي بطفولته وبعض شبابه و ينهيه بلوحة حرية، في رأيي،بالتمعن فيها ،ألا وهي تلك التي تمثل لنا الشاب الخريج من كلية الحقوق التونسية ،يرتاد بشهادته مظان الشغل المناسبة ،فلا يجد من القائمين عليها إلاالصدود، ويساوره الشعور بالقهر لأنه يفتقد من يتوسط له ويدعمه.
ولكنه،قبل أن يستبد به اليأس ، يشارك،متوجسا وآملا، في مناظرة لانتداب أعوان للعمل بوزارة من أهم وزارات السيادةوأدقها ،في اختيار موظفيها، فيحالفه النجاح، وينتدب دبلوماسيا، بوزارة الشؤون الخارجية ،دون وساطة ولادعم إلا بماأظهره من كفاءة وفرتها له،على فقره وريفيته، دولة الاستقلال التي حمل أبوه السلاح ،متطوعا ،في من حملوه، لتحريرها من الاستعمار.
وأما كتابه الثاني فهو مزيج من القصص، ومن التاريخ، ومن البحث، إذ هو مكرس لعرض المسيرة الوظيفية ،التي امتدت طويلا ،يعرض الأحداث والتطورات، ولكنه يكسوها بما صحبها ،في كيانه، من ملابسات المنزلة الانسانية الوجودية العميقة ، والبسيطة الطريفة، وهو ،في عرضه، يتوقف ،كثيرا، ليصبح محللا متسائلا ومستخلصا، فتروق لك ،وانت تقرأه، مهارته القصصية، ويأخذك معه، بصدقه وعنفوان انفعاله ،فتشاركه الفرحة والحزن والخيبة، وتكبر فيه الإباء وعفة النفس،وتفيد مما كتب كثيرا.
وأما الكتاب الثالث فهوكما وصفه مؤلفه »قراءة واعية ومتأنّية، باتجاه نحت مستقبل أفضل للأجيال القادمة. وقد بسطت بعض ملامح رؤيتي حول مستقبل بلدي الجميل تونس وهو يشهد تحولا تاريخيا فريدا ».
وهو نتاج هذا الحس الوطني الطاغي الذي لاتعجب من اصالته، في الكاتب ،بعد أن تكون قد ألممت بمحتده العائلي النضالي، وعرفت مناخ منطقة أجداده المليء بالنخوة والشهامة .فإذا أنت تقرأ بحثا واسعا عن تونس الوطن، وعن مسيرتها السياسية بمختلف مراحلها، وعن رأيه في المستقبل ومقترحاته ليكون ،كما،يحلم به،أفضل .
إني لواثق أن قارئ هذا الكتاب،بأقسامه الثلاثة، سيجد فائدة ،ومتعة، وثراء زاد ، في التجوال ،مع السفير الساكري، عبر قارات العالم،ومعايشةأحداث مهمة ،والتعرف على أنظمة حكم كثيرة متنوعة، وسيقف معه على مناخات نخوة ،ومناخات خيبة، وبعض مناخات يأس يتغلب عليها،دائما، الإباء والمصابرة والوثوق بالله.
وبعد فإني لاأشك أن زميلي العزيز،المولدي ، سيعيد التأمل في مسيرته ،وأنه سيكتشف ،بالتأكيد ، أنها كانت مسيرة ناجحة ، في خدمة الوطن، وانها رحلة ظافرة في تاريخ قومه، وخاصة تاريخ المرحوم أبيه ،الذي كان يباهي به ،ويطمح لأن يراه ذا شان. ولولم يعاجله الأجل، لكان أشد رضا من أبنه البكر، ولقال له ،مثلما أقول، في خاتمة كلمتي الموجزة:
إن مسيرتك لم تذهب ،أبدا، أدراج الرياح ،ولن يضيرها أن كانت خاتمتها (الشكلية) برقيةإدارية جحود، تعلم بنهاية المسيرة الوظيفية، ولا تتلطف بالمجاملة المعهودة. إن ما أنجزته ليس زبدا يذهب جفاء، بل هو سيمكث، بين الناس، لانه مما نفعهم،وكتابك سيواصل نشر النفع، وأدراج الرياح ستحمل عبقه إلى بعيد./.ـ


Ajouter un Commentaire


Code de sécurité
Rafraîchir